الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وكذلك إذا حلف: لا تزوجت فلانة. والحامل له على اليمين صفة فيها، مثل كونها بغيًا أو غير ذلك، فزالت تلك الصفة لم يحنث بتزوجها.كل هذا مراعاة للمقاصد التي الألفاظ دالة عليها. فإذا ظهر القصد كان هو المعتبر. ولهذا لو حلف: ليقضينه حقه في غد. وقصده، أو السبب: أن لا يجاوزه، فقضاه قبله لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع عبده إلا بألف فباعه بأكثر لم يحنث.ولو حلف أن لا يخرج من البلد إلا بإذن الوالى. والنية أو السبب: يقتضى التقييد مادام كذلك فعزل لم يحنث بالخروج بغير إذنه.وكذلك لو حلف على زوجته، أو عبده، أو أمته: أن لا تخرج إلا بإذنه، فطلق أو أعتق أو باع، لم يحنث بخروجهم بغير إذنه. لأن اقتضاء السبب والقصد التقييد في غاية الظهور.ونظائر ذلك كثيرة جدًّا. وسائر الفقهاء يعتبرون ذلك وإن خالفوه في كثير من المواضع.وهذا هو الصواب، لأن الألفاظ إنما اعتبرت لدلالتها على المقاصد، فإذا ظهر القصد كان الاعتبار له، وتقيد اللفظ به. ولهذا لو دعى إلى غداء، فحلف لا يتغذى تقيدت يمينه بذلك الغداء وحده، لأن النية والسبب ومناط اليمين لا يقتضى غيره.وقد أخبر النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وما لم ينوه بيمينه، أو كان السبب لا يقتضيه، لا يجوز أن يلزم به، مع القطع بأنه لم يرده، ولا خطر على باله.وقد أفتى غير واحد من الفقهاء، منهم ابن عقيل وشيخنا، وغيرهما: فيمن قيل له: إن امرأتك قد خرجت من بيتك، أو قد زنت بفلان، فقال هي طالق، ثم تبين له أنها لم تخرج من البيت، وأن الذي رميت به في بلد بعيد لا يمكن وصوله إليها، أو أنه حين رميت به كان ميتا، ونحو ذلك مما يعلم به أنها لم تزن، فإنه لا يقع عليه الطلاق، لأنه إنما طلقها بناء على هذا السبب، فهو كالشرط في طلاقها.وهذا الذي قالوه هو الذي لا يقتضى المذهب وقواعد الفقه غيره، فإنهم قد قالوا: لو قال: لها أنت طالق، وقال: أردت إن قمت، دُين، ولم يقع به الطلاق، فهذا مثله سواء.ونظير هذا: ما قالوه: إن المكاتب لو أدى إلى سيده المال، فقال: أنت حر، فبان أن المال الذي أعطاه مستحق، أو زيوف، لم يقع العتق، وإن كان قد صرح به. ذكره أصحاب أحمد والشافعى، لأنه إنما أعتقه بناء على سلامة العوض، ولم يسلم له، وقواعد الشريعة كلها مبنية على أن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها.وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصر.فهذه الطريقة تخلص من كثير من الحنث.وإذا تأملت هذه الطرق لرأيت أيتها سلكت أحسن من طرق الحيل التي يتحيلون بها على عدم الحنث، وهى أنواع:أحدها: التسريج.الثانى: خلع اليمين.الثالث: التحيل لفساد النكاح، إما بكون الولى كان قد فعل ما يفسق به، أو الشهود كانوا جلوسًا على مقعد حرير، ونحو ذلك، فيكون النكاح باطلًا. فلا يقع فيه الطلاق.الرابع: الاحتيال على فعل المحلوف عليه، بتغيير اسمه، أو صفته. أو نقله من مالك إلى مالك، ونحو ذلك.فإذا غلبوا عن شيء من هذه الحيل الأربعة فزعوا إلى التيس المستعار، فاستأجروه ليسفد ويأخذ على سفاده أجرا.فليوازن من يعلم أنه موقوف بين يدى الله تعالى ومسئول، بين هذه الطرق وتلك الطرق التي قبلها. وليقم لله ناظرًا، ومناظرًا متجردًا من العصبية والحمية، فإنه لا يكاد يخفى عليه الصواب، والله ولى التوفيق.فصل:وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [ص: 44].فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه.هذا قول أصحاب أبى حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد.وقال الشافعى: إن علم أنها مسته كلها بر في يمينه، وإن علم أنها لم تمسه لم يبر. وإن شك لم يحنث، ولو كان هذا موجبًا لبر الحالف لسقط عن الزانى والقاذف والشارب تعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط، أو ثمانين، ويضرب بها ضربة واحدة، وهذا إنما يجزئ في حق المريض، كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحد «يضرب بعثكال يسقط عنه الحد».واحتج بما رواه عن أبى أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدع، فلم يرع الحى إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، قال: فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ لِرَسوِلِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم، وكانَ ذلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا، فقَالَ: «اضْرِبُوهُ حَدَّهُ»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ الله: إِنّهُ أَضْعَفُ مَّمِا تحْسبُ، لَوْ ضَرَبْنَاهُ مِائَةً قَتَلْنَاهُ، فقَالَ: «خُذُوا له عِثْكالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بهِ ضَرْبةً وَاحِدَةً، فَفَعَلُوا».وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق، فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه. فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان، ثم حلف: لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط، فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة، فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير، ولم يحتج إلى ضربها، فكانت اليمين موجبة عندهم، كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورًا خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ، أو مائة سوط، فيضرب بها ضربة واحدة، وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان، فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به، وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البر في يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن في قصة أبوب عليه السلام لنص السنة في شأن الضعيف الذي زنى، فلا يتعدى بها عن محلها.فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك، ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين، لا ذنب لهما: أنه يبر بجمع ذلك في ضربة بمائة شمراخ.قيل: قد جعل الله له مخرجًا بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر عن يمينه، ولا يعصى الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبر فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة، ولا يحل له أن يضربها، لا مفرقًا ولا مجموعًا.فإن قيل: فإذا كان الضرب واجبا. كالحد، هل تقولون: ينفعه ذلك؟قيل: إما أن يكون العذر مرجو الزوال، كالحر والبرد الشديد، والمرض اليسير، فهذا ينتظر زواله، ثم يحد الحد الواجب، كما روى مسلم في صحيحه عن على رضي الله عنه: «أَنَّ أَمَةً لرَسولِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم زَنَتْ، فأَمَرَنِى أَنْ أَجْلِدَهَا، فَأَتَيْتُهَا، فَإٍذَا هي حَدِيثَةُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ، فَخَشِيتُ إن جَلَدْتُهَا أَنْ أَقْتُلَهَا، فَذَكَرْتُ ذلِكَ لِرَسُولِ الله صلى اللهُ تعالى عليه وآله وسلَم، فَقَالَ: أَحْسَنْتَ، اُتْرُكْهَا حَتَّى تَماثَلَ».فصل:وأما حديث بلال في شأن التمر، وقول النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم له: «بِعَ التَّمرَ بِالدَّرَاهمِ، ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا».فقال شيخنا: ليس فيه دلالة على الاحتيال بالعقود التي ليست مقصودة لوجوه:أحدها: أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أمره أن يبيع سلعته الأولى، ثم يبتاع بثمنها سلعة أخرى ومعلوم أن ذلك إنما يقتضى البيع الصحيح، ومتى وجد البيعان على الوجه الصحيح جاز ذلك بلا ريب، ونحن نقول: كل بيع صحيح يفيد الملك، لكن الشأن في بيوع قد دلت السنة وأقوال الصحابة على أن ظاهرها، وإن كان بيعًا، فإنها ربا وهى بيع فاسد، ومعلوم أن مثل هذا لا يدخل في الحديث، ولو اختلف رجلان في بيع مثل هذا، هل هو صحيح، أو فاسد؟ وأراد أحدهما إدخاله في هذا اللفظ، لم يمكنه ذلك، حتى يثبت أنه بيع صحيح، ومتى أثبت أنه بيع صحيح، لم يحتج إلى الاستدلال بهذا الحديث.فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع ألبتة. اهـ.
|